،
’
كنت قد جلست معه
قربه ، أقول له : حدثني بعد يا جدي عن فلسطين ...
قال لي : لا اعرف من اين ابدأ
لم تكوني قد ولدت بعد..
أنت ماذا تريدين أن تعرفي بالضبط ؟ ...
اني أقول لك أن فلسطين أحلى أرض ؟ ماذا تريدين أكثر من ذلك؟ ...
يا جدي أخبرني ، كم كانت فلسطين جميلة ، هل كانت احلى من هذه الأرض ؟
فلسطين أحلى من أية أرض
فيها الجرانك والفراولة ... فيها كل إشي.
كانت الدموع تغص في عينيه ، كان عندنا دونمات كثير...
كنا نزرع الأرض بالبطيخ ، وكل شيء ونصدّر منها.
طيب ؟ كيف ضاعت منا يا جدي ...؟
كيف ...
نظر إلى الطبيعة وقال : والله لو كان الأمر متروك لنا لما دخله يهودي !
طيب ليش ؟ ما كان في عندكم ذخيرة ...؟؟؟
إستنفرت كل القوى العربية وما حد ساعدكم ؟
آخ يا جدي ، إيش أقولك ؟
ما حد ساعدنا ، ساعدوهم ، ممكن ، بس ساعدونا ! أبداً
تركوا بيوتهم في يافا وفى الجورة وفى المجدل، تركوا الطبيخ على النار
على أمل أن القوات العربية ستدخل وستنقذنا .
بيوتنا سكنها غيرنا .
أخبار المجازر تتوارد إلينا ، ما كنا نخاف ، كنا صامدين ...
نزلت دمعة على خده .ولكن لم يبق منا إلا قليل كي يدافع...
بلا ذخائر ، بلا رجال يتمنون الجنة.
ظل يحكي جدي ،حتى وجدت غصة في كلامه ورأيته يبكي . جدي الذي هو بالنسبة لي رمز القوة ، كان يبكي بحرقة . ركضت إليه بمحرمة .
وقلت له : لا تبكِ يا جدي ، لا تبكِ ... يا جدي ، أنت بالنسبة لي كل شيء ، بالله عليك لا تبكِ. أتعرف شيئاً ؟ أنا لم أطلب منك أن تحكي لي عن فلسطين إلا كي أقول لك شيئاً
واحداً : نحن لن ننسى هذه الأرض.
نحن صغار ولكننا عندما نكبر ، نريد أن نذهب لفلسطين ، نريد أن نحررها حتى آخر شبر .
لن أنسى فلسطين . يا جدي ، أنا لم أشأ أن أجعلك تبكي !
يعزّ علي بكاؤك أمامي . يا جدي ، أين مفتاح دارنا ؟
أخرج من جيبته صرّة صغيرة ، إبتسم وهو يبكي . فتح الصرّة وأعطاني مفتاحاً كبيراً
وقال : هذا مفتاح البوابة الكبيرة ، ورائها الحديقة وهناك البيت ، تجد مفتاح الدار قرب العتبة .
لا تفرّط في الدار، أرجوك لا تتركها. ورجع يبكي.
صرت أقبّله وأمسح عبراته.
توفي جدي . أظلمت الدنيا في وجهي . لم أكن لأنساه ، شكله ، لحيته البيضاء ، كلامه
الحنون وحديثه عن فلسطين : فلسطين الواقع ثم فلسطين الحلم ...
فلسطين التي تحيا فينا مع كل نبضة قلب، فلسطين التي نستنشقها مع الهواء ونشربها مع كل
قطرة ماء !